ما هي سجدة التلاوة ، وما هي كيفيتها ، وما سببها ، وما حِكْمَتِهَا ومَا مواضعها من القرآن الكريم؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
ففي القرآن آياتٌ تشير إلى السجود لله يشرع السجود عندها، والمتفق عليه عشْر آيات منها، ويدور حكمها بين الوجوب والندب على خلاف بين الفقهاء، ومواضعها مشار إليها في المُصحف بعلامات واضحة، وتُؤدَّى بسجدةٍ واحدة بين تكبيرتينِ دون تشهُّدٍ ولا تسليمٍ، ويشترط الطهارة واستقبال القبلة لها على الراجح، ومن حِكْمَة هذا السجود أنه نوع من التربية العملية الروحية، واختبار لدرجة الاستعداد في الخُضوع لله، وإسلام الوجه إليه .
يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله-ردا على سؤال مماثل :
في القرآن الكريم آياتٌ لا يقل عددُها باتِّفاق المُحدثين والفقهاء عن عشْر آيات، ولا يزيد عددُها باتِّفاقهم ـ أيضًا ـ عن خمس عشرة آية، يأمر بعض هذه الآيات بالسجود للهِ ويُنكر بعضها على مَن سجد لغير الله. ويَحكي بعضها عمَّا في السماوات وما في الأرض وعن الملائكة، وعن المؤمنين سُجودهم لله. وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قرأ آية من تلك الآيات سجَد في نهايتها، وسجَد معه أصحابه السامعون، واستمر الأمر على ذلك إلى أن لحِق ـ صلى الله عليه وسلم ـ بربه، ودرَج عليها من بعده أصحابه والتابعون، حتى جاء أئمةُ الفقه فبحثوا أحكامها من أقوال الرسول وفِعْلِهِ، على نحو ما بحثوا سائر المشروعات العملية من عبادات ومُعاملات، وأفرَدوا لها بابًا مُستقِلًا، عُرف في جميع كتب المذاهب بباب: "سُجود التلاوة".
حُكم السجود:
وقد اتَّفَقَ جميعُهم على أنها مشروعةٌ ومَطلوبة، وأعطاها بعضهم حكم الوُجوب وقرَّر أن ترْكها ـ مع العلْم بها، وتحقُّق سببِها وهو القراءة أو السماع ـ مُوجب للإثْم، شأن كل واجب إذا تُرك، ومَنَحَهَا البعض الآخر حُكم السُّنِّيَّة، ورأى أن ترْكها مُفَوِّتٌ لثواب السُّنن، وأن المُداومة على تركها مَظهر من مظاهر الجفْوة للمشروعات التعبديَّة الثابتة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
مواضع السجود في القرآن:
أما آياتها فهي كما جاءت في سُورها على حسب الترتيب المُصحفِيِّ قوله ـ تعالى ـ في آخر سورة الأعراف: (إنَّ الذينَ عندَ ربِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِهِ ويُسَبّحُونَهُ ولهُ يَسْجُدُونَ). (آخر آية بالأعْراف) وقوله في سورة الرعد: (وللهِ يَسجدُ مَن في السمواتِ والأرضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُمْ بالْغُدُوِّ والآصَالِ). (الآية: 2 من سورة الرعد)، وقوله في سورة النحل: (وللهِ يسجدُ ما في السمواتِ وما في الأرضِ مِن دابَّةٍ والملائكةُ وهمْ لا يَستكبرونَ). (الآية: 49 من سورة النحل) وقوله في سورة الإسراء: (قُلْ آمِنُوا بهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الذينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى علَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأَذْقَانِ سُجَّدًا ويَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنَا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا). (الآية: 107 ـ 108 من سورة الإسراء). وقوله في سورة مريم بعد أن قصَّ أنباء جملة من رُسله الكرام: (أُولئكَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ ومِمَّنْ حَمَلْنَا معَ نُوحٍ ومِن ذُريةِ إبراهيمَ وإسرائيلَ وممَّنْ هَدَيْنَا واجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عليهمْ آياتُ الرحمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا). (الآية: 58 من سورة مريم) وقوله في سورة الحج: (ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسجدُ له مَن في السمواتِ ومَن في الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ وكثيرٌ حَقَّ عليهِ العذابَ ومَن يُهِنِ اللهُ فمَا له مِن مُكْرِمٍ إنَّ اللهَ يَفعلُ مَا يَشَاءُ). (الآية: 18 من سورة الحج) وقوله في آخرها: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكُمْ وافْعَلُوا الخيْرَ لعلَّكم تُفلحونَ). (الآية: 77 من سورة الحج). وقوله في سورة الفرقان: (وإذا قِيلَ لهمْ اسْجُدُوا للرحمنِ قالُوا ومَا الرحمنُ أنَسْجُدُ لمَا تَأْمُرُنَا وزَادَهُمْ نُفُورًا). (الآية: 60 من سورة الفرقان) وقوله في سورة النمل بعد حديث الهُدهد عن ملكة سبأٍ: (ألَّا يَسجُدُوا للهِ الذي يُخرجُ الخَبْءَ في السمواتِ والأرضِ ويَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ ومَا تُعْلِنُونَ اللهُ لا إلهَ إلَّا هوَ ربُّ العَرْشِ العَظيمِ). (الآية 25ـ 26 من سورة النمل)، وقوله في سورة السجدة: (إنَّمَا يُؤمنُ بآيَاتِنَا الذينَ إذَا ذُكِّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا وسَبَّحُوا بحَمْدِ رَبِّهِمْ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ). (الآية: 15 من سورة السجدة) وقوله في قصة داود من سورة ص: (وظَنَّ داودُ أنَّمَا فَتَنَّاهُ فاسْتَغْفَرَ ربَّهُ وخَرَّ راكِعًا وأَنَابَ). (الآية: 24 من سورة ص) وقوله في سورة "فُصِّلتْ" (ومِن آياتِه الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ لا تَسْجُدُوا للشمسِ ولا للْقَمَرِ واسْجُدُوا للهِ الذي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنتمْ إيَّاهُ تَعْبُدونَ فإنِ اسْتَكْبَرُوا فالذينَ عندَ رَبِّكَ يُسبِّحُونَ لهُ بالليلِ والنَّهَارِ وهُمْ لا يَسْئَمُونَ). (الآية: 37 ـ 38 من سورة فصلت) وقوله في سورة النجم: (أفمِن هذا الحديثِ تَعجبونَ وتَضحكونَ ولا تَبْكُونَ وأنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا للهِ واعْبُدُوا). (الآيات: 59 ـ 62 من سورة النجم). وقوله في سورة الانشقاق: (فلا أُقْسِمُ بالشَّفَقِ والليلِ ومَا وَسَقَ والقمرِ إذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ فمَا لهُمْ لا يُؤمنونَ وإذَا قُرِئَ عليهمُ القرآنُ لا يَسْجُدُونَ). (الآيات 16 ـ 21 من سورة الانشقاق). وقوله في سورة العلق: (اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ). (كلَّا لَئِنْ لمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ ناصيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةُ كلَّا لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ). (الآيات 15 ـ 19 من سورة العلق).
هذه آيات السجدة على أكثر عددها، وقد وُضع لها في هامش الطبعة الأخيرة من المُصحف علاماتٌ واضحة، تُرشد إلى ما أجمع الأئمة على السجود فيه، وإلى ما اختلفوا فيه، وبيان المذهب المُخالف .
صفة السجود وأحكامه :
وهي تُؤدَّى بسجدةٍ واحدة بين تكبيرتينِ، إحداهما حين الهُوِيِّ لوَضْعِ الجبهة على الأرض. والأُخرَى حين الرفْع للانتهاء دون تشهُّدٍ ولا تسليمٍ، وأفضل ما يُقال فيها بعد تسبيح السجود المَعهود ما روتْه السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ: "كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في سجود القرآن: "سجَد وجهي للذي خلَقَهُ، وشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ".
ويجب أن يكون السجود ـ بحُكم نظام التوجُّه العام في الإسلام ـ إلى جهة القِبْلة، كما يجب ألَّا يكون الساجد على جَنابة، واشترطت المذاهب المشهورة "طهارة الوُضوء" واستظهر بعض الفُقهاء، تبعًا لبعضِ الروايات، أنه لا يُشترط الوضوء، وفي هذا الرأْيِ يُسْرٌ عظيمٌ يتمشَّى مع يُسْر الإسلام وسُهولته، وإن كان الوضوءُ أحبَّ وأولَى، ومن هنا كان الوضوء سلاح المُؤمن.
الحكمة من السجود:
أمَّا حِكْمَةُ هذا السجود فهي على وجهٍ عام نوع من التربية العملية الروحية، يُفاجأُ بها المؤمن كلَّما قرأ القرآن أو سمعه في أيِّ وقت وفي أيِّ مكان. وهذا اختبار لدرجة استعداده لإجابة الدعوة عَمَلِيًّا في الخُضوع لله، وإسلام الوجه إليه؛ فيكون المؤمن بالنسبة لله "وله المثلُ الأعلَى" كالجندي تُفاجئه رؤيةُ قائده، فيَنسلخ بمُجرد رؤيته من نفسه ويَبذل له التحية المَرسومة عن طوْعٍ واختيار، رمزًا للطاعة والامتثال.
وفيها بعد ذلك المُسايرة لرُوح العبودية العام، الذي سُخِّرَ الكوْنُ عليه، ناطقُه وصامتُه، عُلْوِيُّهِ وسُفْلِيُّهِ، والمُسارعة إلى الإعلان العملي بتخصيص السجود لله، دون أرباب العظمة الآفلة الفانية، (لا تَسْجُدُوا للشمسِ ولا للقمرِ واسْجُدُوا للهِ الذِي خَلَقَهُنَّ). (ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسْجُدُ لهُ مَن فِي السمواتِ ومَن فِي الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ).
وفيها التلبية لمُقتضى العلْم والإيمان، والتشبُّه بالملأ الأعلَى الدائم السجود لله، (إنَّ الذين أُوتُوا العلْم مِن قبلِه إذا يُتلَى عليهمْ يَخِرُّونَ للأذقانِ سُجَّدًا). (إنَّ الذينَ عندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ ويُسَبِّحُونَه ولهُ يَسْجُدُونَ).
وفيها مُراغمةُ المُلحدين الذينَ (إذا قيلَ لهمُ اسْجُدُوا للرحمنِ قالُوا وما الرَّحمنُ)؟ وأخيرًا فيها المبادرة إلى التأسِّي بالرسول في قُوة إعراضه عن المُكذبين، وائتماره بالسجود لله، ومُتابعة الأنبياء والسير في طريقهم، إظهارًا لوَحْدة الدين عند الله (كلَّا لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ). (أُولئكَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ ومِمَّنْ حَمَلْنَا معَ نُوحٍ ومِن ذُريةِ إبراهيمَ وإسرائيلَ وممَّنْ هَدَيْنَا واجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عليهمْ آياتُ الرحمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا).
معنى السجود معروف:
هذه هي سجدة التلاوة ومكانتها في التشريع، وتلك آياتها وحِكمة مشروعيتها، وقد اتَّضح أن السجود الوارد في تلك الآيات ليس معناه فقط ـ كما يُريد أرباب التحلُّل ـ مجرد الخضوع والتسليم القلبيِّ الخفِيِّ دون أن يكون له بالأعضاء مَظهر يدلُّ عليه. وإنَّ مَن يُفسره بذلك ولا يرى سُجودًا عمليًّا مَطلوبًا فقد اقتحم حُرمة عبادةٍ عُرفتْ مَشْرُوعيَّتُها عن الرسول، وتواترت بصفتها الشرعية، وتلقَّاها خلَفُ المسلمين المُتفقِّهينَ في دِينهم عن سلَفهم الصالح، واتَّضح أنها شِعارٌ عمليٌّ عام للمؤمنين، يُوجَد مثله عند كثير مِن الطوائف والجماعات، ذات المبادئ الخاصة، والاتجاهات المُعيَّنة، إعلانًا لمبادئهم وتقديسًا لمُعتقداتهم، وجدير بشريعة الله أن تتَّخذ السجود لله رمزًا لأسمَى العقائد وأقواها أثَرًا في الحياة، وهي عقيدةُ التوحيد المُطلق للهِ الواحد القهَّار.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
ففي القرآن آياتٌ تشير إلى السجود لله يشرع السجود عندها، والمتفق عليه عشْر آيات منها، ويدور حكمها بين الوجوب والندب على خلاف بين الفقهاء، ومواضعها مشار إليها في المُصحف بعلامات واضحة، وتُؤدَّى بسجدةٍ واحدة بين تكبيرتينِ دون تشهُّدٍ ولا تسليمٍ، ويشترط الطهارة واستقبال القبلة لها على الراجح، ومن حِكْمَة هذا السجود أنه نوع من التربية العملية الروحية، واختبار لدرجة الاستعداد في الخُضوع لله، وإسلام الوجه إليه .
يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله-ردا على سؤال مماثل :
في القرآن الكريم آياتٌ لا يقل عددُها باتِّفاق المُحدثين والفقهاء عن عشْر آيات، ولا يزيد عددُها باتِّفاقهم ـ أيضًا ـ عن خمس عشرة آية، يأمر بعض هذه الآيات بالسجود للهِ ويُنكر بعضها على مَن سجد لغير الله. ويَحكي بعضها عمَّا في السماوات وما في الأرض وعن الملائكة، وعن المؤمنين سُجودهم لله. وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قرأ آية من تلك الآيات سجَد في نهايتها، وسجَد معه أصحابه السامعون، واستمر الأمر على ذلك إلى أن لحِق ـ صلى الله عليه وسلم ـ بربه، ودرَج عليها من بعده أصحابه والتابعون، حتى جاء أئمةُ الفقه فبحثوا أحكامها من أقوال الرسول وفِعْلِهِ، على نحو ما بحثوا سائر المشروعات العملية من عبادات ومُعاملات، وأفرَدوا لها بابًا مُستقِلًا، عُرف في جميع كتب المذاهب بباب: "سُجود التلاوة".
حُكم السجود:
وقد اتَّفَقَ جميعُهم على أنها مشروعةٌ ومَطلوبة، وأعطاها بعضهم حكم الوُجوب وقرَّر أن ترْكها ـ مع العلْم بها، وتحقُّق سببِها وهو القراءة أو السماع ـ مُوجب للإثْم، شأن كل واجب إذا تُرك، ومَنَحَهَا البعض الآخر حُكم السُّنِّيَّة، ورأى أن ترْكها مُفَوِّتٌ لثواب السُّنن، وأن المُداومة على تركها مَظهر من مظاهر الجفْوة للمشروعات التعبديَّة الثابتة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
مواضع السجود في القرآن:
أما آياتها فهي كما جاءت في سُورها على حسب الترتيب المُصحفِيِّ قوله ـ تعالى ـ في آخر سورة الأعراف: (إنَّ الذينَ عندَ ربِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِهِ ويُسَبّحُونَهُ ولهُ يَسْجُدُونَ). (آخر آية بالأعْراف) وقوله في سورة الرعد: (وللهِ يَسجدُ مَن في السمواتِ والأرضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُمْ بالْغُدُوِّ والآصَالِ). (الآية: 2 من سورة الرعد)، وقوله في سورة النحل: (وللهِ يسجدُ ما في السمواتِ وما في الأرضِ مِن دابَّةٍ والملائكةُ وهمْ لا يَستكبرونَ). (الآية: 49 من سورة النحل) وقوله في سورة الإسراء: (قُلْ آمِنُوا بهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الذينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى علَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأَذْقَانِ سُجَّدًا ويَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنَا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا). (الآية: 107 ـ 108 من سورة الإسراء). وقوله في سورة مريم بعد أن قصَّ أنباء جملة من رُسله الكرام: (أُولئكَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ ومِمَّنْ حَمَلْنَا معَ نُوحٍ ومِن ذُريةِ إبراهيمَ وإسرائيلَ وممَّنْ هَدَيْنَا واجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عليهمْ آياتُ الرحمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا). (الآية: 58 من سورة مريم) وقوله في سورة الحج: (ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسجدُ له مَن في السمواتِ ومَن في الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ وكثيرٌ حَقَّ عليهِ العذابَ ومَن يُهِنِ اللهُ فمَا له مِن مُكْرِمٍ إنَّ اللهَ يَفعلُ مَا يَشَاءُ). (الآية: 18 من سورة الحج) وقوله في آخرها: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكُمْ وافْعَلُوا الخيْرَ لعلَّكم تُفلحونَ). (الآية: 77 من سورة الحج). وقوله في سورة الفرقان: (وإذا قِيلَ لهمْ اسْجُدُوا للرحمنِ قالُوا ومَا الرحمنُ أنَسْجُدُ لمَا تَأْمُرُنَا وزَادَهُمْ نُفُورًا). (الآية: 60 من سورة الفرقان) وقوله في سورة النمل بعد حديث الهُدهد عن ملكة سبأٍ: (ألَّا يَسجُدُوا للهِ الذي يُخرجُ الخَبْءَ في السمواتِ والأرضِ ويَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ ومَا تُعْلِنُونَ اللهُ لا إلهَ إلَّا هوَ ربُّ العَرْشِ العَظيمِ). (الآية 25ـ 26 من سورة النمل)، وقوله في سورة السجدة: (إنَّمَا يُؤمنُ بآيَاتِنَا الذينَ إذَا ذُكِّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا وسَبَّحُوا بحَمْدِ رَبِّهِمْ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ). (الآية: 15 من سورة السجدة) وقوله في قصة داود من سورة ص: (وظَنَّ داودُ أنَّمَا فَتَنَّاهُ فاسْتَغْفَرَ ربَّهُ وخَرَّ راكِعًا وأَنَابَ). (الآية: 24 من سورة ص) وقوله في سورة "فُصِّلتْ" (ومِن آياتِه الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ لا تَسْجُدُوا للشمسِ ولا للْقَمَرِ واسْجُدُوا للهِ الذي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنتمْ إيَّاهُ تَعْبُدونَ فإنِ اسْتَكْبَرُوا فالذينَ عندَ رَبِّكَ يُسبِّحُونَ لهُ بالليلِ والنَّهَارِ وهُمْ لا يَسْئَمُونَ). (الآية: 37 ـ 38 من سورة فصلت) وقوله في سورة النجم: (أفمِن هذا الحديثِ تَعجبونَ وتَضحكونَ ولا تَبْكُونَ وأنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا للهِ واعْبُدُوا). (الآيات: 59 ـ 62 من سورة النجم). وقوله في سورة الانشقاق: (فلا أُقْسِمُ بالشَّفَقِ والليلِ ومَا وَسَقَ والقمرِ إذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ فمَا لهُمْ لا يُؤمنونَ وإذَا قُرِئَ عليهمُ القرآنُ لا يَسْجُدُونَ). (الآيات 16 ـ 21 من سورة الانشقاق). وقوله في سورة العلق: (اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ). (كلَّا لَئِنْ لمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ ناصيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةُ كلَّا لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ). (الآيات 15 ـ 19 من سورة العلق).
هذه آيات السجدة على أكثر عددها، وقد وُضع لها في هامش الطبعة الأخيرة من المُصحف علاماتٌ واضحة، تُرشد إلى ما أجمع الأئمة على السجود فيه، وإلى ما اختلفوا فيه، وبيان المذهب المُخالف .
صفة السجود وأحكامه :
وهي تُؤدَّى بسجدةٍ واحدة بين تكبيرتينِ، إحداهما حين الهُوِيِّ لوَضْعِ الجبهة على الأرض. والأُخرَى حين الرفْع للانتهاء دون تشهُّدٍ ولا تسليمٍ، وأفضل ما يُقال فيها بعد تسبيح السجود المَعهود ما روتْه السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ: "كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في سجود القرآن: "سجَد وجهي للذي خلَقَهُ، وشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ".
ويجب أن يكون السجود ـ بحُكم نظام التوجُّه العام في الإسلام ـ إلى جهة القِبْلة، كما يجب ألَّا يكون الساجد على جَنابة، واشترطت المذاهب المشهورة "طهارة الوُضوء" واستظهر بعض الفُقهاء، تبعًا لبعضِ الروايات، أنه لا يُشترط الوضوء، وفي هذا الرأْيِ يُسْرٌ عظيمٌ يتمشَّى مع يُسْر الإسلام وسُهولته، وإن كان الوضوءُ أحبَّ وأولَى، ومن هنا كان الوضوء سلاح المُؤمن.
الحكمة من السجود:
أمَّا حِكْمَةُ هذا السجود فهي على وجهٍ عام نوع من التربية العملية الروحية، يُفاجأُ بها المؤمن كلَّما قرأ القرآن أو سمعه في أيِّ وقت وفي أيِّ مكان. وهذا اختبار لدرجة استعداده لإجابة الدعوة عَمَلِيًّا في الخُضوع لله، وإسلام الوجه إليه؛ فيكون المؤمن بالنسبة لله "وله المثلُ الأعلَى" كالجندي تُفاجئه رؤيةُ قائده، فيَنسلخ بمُجرد رؤيته من نفسه ويَبذل له التحية المَرسومة عن طوْعٍ واختيار، رمزًا للطاعة والامتثال.
وفيها بعد ذلك المُسايرة لرُوح العبودية العام، الذي سُخِّرَ الكوْنُ عليه، ناطقُه وصامتُه، عُلْوِيُّهِ وسُفْلِيُّهِ، والمُسارعة إلى الإعلان العملي بتخصيص السجود لله، دون أرباب العظمة الآفلة الفانية، (لا تَسْجُدُوا للشمسِ ولا للقمرِ واسْجُدُوا للهِ الذِي خَلَقَهُنَّ). (ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسْجُدُ لهُ مَن فِي السمواتِ ومَن فِي الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ).
وفيها التلبية لمُقتضى العلْم والإيمان، والتشبُّه بالملأ الأعلَى الدائم السجود لله، (إنَّ الذين أُوتُوا العلْم مِن قبلِه إذا يُتلَى عليهمْ يَخِرُّونَ للأذقانِ سُجَّدًا). (إنَّ الذينَ عندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ ويُسَبِّحُونَه ولهُ يَسْجُدُونَ).
وفيها مُراغمةُ المُلحدين الذينَ (إذا قيلَ لهمُ اسْجُدُوا للرحمنِ قالُوا وما الرَّحمنُ)؟ وأخيرًا فيها المبادرة إلى التأسِّي بالرسول في قُوة إعراضه عن المُكذبين، وائتماره بالسجود لله، ومُتابعة الأنبياء والسير في طريقهم، إظهارًا لوَحْدة الدين عند الله (كلَّا لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ). (أُولئكَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ ومِمَّنْ حَمَلْنَا معَ نُوحٍ ومِن ذُريةِ إبراهيمَ وإسرائيلَ وممَّنْ هَدَيْنَا واجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عليهمْ آياتُ الرحمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا).
معنى السجود معروف:
هذه هي سجدة التلاوة ومكانتها في التشريع، وتلك آياتها وحِكمة مشروعيتها، وقد اتَّضح أن السجود الوارد في تلك الآيات ليس معناه فقط ـ كما يُريد أرباب التحلُّل ـ مجرد الخضوع والتسليم القلبيِّ الخفِيِّ دون أن يكون له بالأعضاء مَظهر يدلُّ عليه. وإنَّ مَن يُفسره بذلك ولا يرى سُجودًا عمليًّا مَطلوبًا فقد اقتحم حُرمة عبادةٍ عُرفتْ مَشْرُوعيَّتُها عن الرسول، وتواترت بصفتها الشرعية، وتلقَّاها خلَفُ المسلمين المُتفقِّهينَ في دِينهم عن سلَفهم الصالح، واتَّضح أنها شِعارٌ عمليٌّ عام للمؤمنين، يُوجَد مثله عند كثير مِن الطوائف والجماعات، ذات المبادئ الخاصة، والاتجاهات المُعيَّنة، إعلانًا لمبادئهم وتقديسًا لمُعتقداتهم، وجدير بشريعة الله أن تتَّخذ السجود لله رمزًا لأسمَى العقائد وأقواها أثَرًا في الحياة، وهي عقيدةُ التوحيد المُطلق للهِ الواحد القهَّار.